إعلام الضفة 26-10-2022م
تمر علينا الذكرى السنوية السابعة والعشرين لاستشهاد المفكر والرسالي الدكتور فتحي الشقاقي، وكما هي ذكرى الشهداء يتبارى المحبون والمريدون لاسترجاع المواقف العظيمة والذكريات الجميلة، لأولئك الشهداء اعترافاً بفضلهم وسبقهم وأملاً في الاستمرار على نهجهم الطاهر.
فالاقتراب من حضرة المعلم وعياً وفكرة وثقافة، عظيم وجليل لما تركه من أثر واضح وإرث مبارك يتعزز كلما مرت السنون، فلم يكن مجرد قائد أو مثقف أو منظَّر أو مجاهد، بل كان الإنسان بكل اَماله واَلامه وهمومه، وكان الأمل الذي يحذوه على طريق فلسطين.
كان يرى أن الصراع بين مكونات الأمة صراع مصطنع أوجده الاستعمار لتثبيت التفتيت والتجزئة، وأن الحضارة الإسلامية قادرة على استيعاب القوميات المتعددة في إطار مفهوم الأمة. ولم يتردد يوماً في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية.
بدايات المشوار:
لا شك أن كل من تعرّف إلى الشهيد فتحي الشقاقي يشعر بأنه أمام مثقف إسلامي ثوري، وأمام شعلة من النشاط والإبداع المتواصل، وبلا شك أمام إنسان مؤثر وملهم للآخرين يشعرك بأن بداية خيط الخلاص مما نحن فيه بيده، وبالتالي بيدك إن أنت انتبهت وإن أنت أردت.
يقول القيادي المؤسس خالد جرادات "أبو هادي"، إن اللقاء الأول الذي جمعه بالدكتور فتحي الشقاقي في مستشفى المطلع بالقدس عام 1983م، حيث كان يعمل الدكتور طبيباً، وإلى جانب مهنته كان ينشر فكر الجهاد، وينثر وعيه في عقول الشباب وحبه في قلوبهم.
أما القيادي المؤسس محمد بريوش، فيستذكر اللقاء الأول بالشقاقي إبان دراسته الجامعية في شقة سكن طلبة الجامعة في بيرزيت بداية الثمانينيات، ثم جمعتهم مواسم إحياء ليلة القدر في باحات المسجد الأقصى.
واستذكر القيادي بريوش، أثناء دراسته في بيرزيت، كان يقول الشقاقي إن أفكارنا تبقى عرائس من شمع، فإذا رويناها بدمنا دبت فيها الحياة، حيث كان يجلب عدداً من الإصدارات منها: مجلة النور، الطليعة، والمختار الإسلامي، وكان يوجه إلى دراسة علي شريعتي ومالك بن نبي وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، ويحث على القراءة بقوله المشهور: اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ حتى تنطفىء أنوار عينيك، وأن المثقف أول من يقاوم واَخر من ينكسر.
رحلة الاَلام والآمال:
كان الرحلة صعبة في البحث عن إجابات للأسئلة التي أرقت الشهيد الشقاقي وإخوانه، فكان السؤال عن مسوّغات هزيمة حزيران، وعن دور الإسلام كمعتقد في القضية الفلسطينية. ووسط ذلك اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، ليري فيها مؤسِّس الجهاد نقطة التحوّل الكبرى، فكان ذلك إيذاناً بفتح جديد رغم ما تعرض له من صعوبات ومضايقات من العدو والصديق.
القيادي المؤسس خالد جرادات تحدث عن الصعوبات التي واجهت الشهيد الشقاقي ورفاقه في بداية تأسيس الحركة في الضفة، والتي تمثلت في المطاردة والملاحقة من جيش الاحتلال، فيما يرى أن الهمة والمعنويات كانت عالية ومعاني الإرادة والإخلاص تغلبت على تلك العقبات.
واعتبر الشيخ جرادات أن التيار الإسلامي التقليدي لم يتقبل الفكرة الوليدة، وبدأ بمحاصرتها ومقاطعتها قدر الإمكان وتشويها بكل التهم الباطلة، مؤكداً أنه رغم كل تلك المحاولات إلا أن الفكر امتد وانتشر، وصار له مؤيدون ورجال، وثبت صدقه حتى للذين حاربوه.
في ذات السياق، أوضح الشيخ محمد بريوش، أن من الصعوبات التي اعترضت مسيرة الحركة في بدايتها، قلة الإمكانيات المادية وصعوبة التواصل بسبب الاحتلال، وكثرة الهدامين الذين كانوا يتصيدون لفكر الحركة ويحاربونه في كل موقع من أجل النيل منه وعدم منافستهم.
الطريق إلى فلسطين:
أعاد الشقاقي ورفاقه اكتشاف الشيخ عز الدين القسام، ورفع حكايته ومسيرة جهاده، في وجه الذين لبّوا نداء القتال إلى كابول، كما راهن على طاقات الجماهير لإحداث التغيير المطلوب، وفهم أن الحركة يجب أن تكون ميدانية، تلتحم بالجماهير، في الأسواق والمساجد والجامعات والمكتبات.
وحدّد طبيعة المشروع الصهيوني أنه رأس حربة المشروع الغربي، وأنه رأس جبل هذا المشروع الذي تقف خلفه هجمة غربية استعمارية تستهدف الحيلولة دون نهضة الأمة ووحدتها وتحررها، وأيضاً استمرار نهب خيراتها، ومصادرة قرارها، وفلسطين هي نقطة الارتكاز ومركزية الصراع.
بخصوص الإنجازات التي تحققت بفعل حركة الشهيد الشقاقي في تلك المرحلة، أفاد الشيخ خالد جرادات أن من أهمها، هو ربط الشباب المسلم بالواقع وقضايا المجتمع وهموم الوطن، حيث كان التيار الإسلامي التقليدي منعزلاً عن ذلك، مشيراً إلى أن الفكر الجهادي كان يلامس طبقة المفكرين والمثقفين وعموم الناس.
وكشف القيادي جرادات، أن الشهيد الشقاقي كان يستثمر كل إجازة من العمل في المستشفى للتوجه نحو الجامعات والمساجد في القرى والمدن من أجل الالتقاء بالطلبة والوجهاء والدعاة ونقل الفكر الذي يحمله، لافتاً إلى إحياء ليالي القدر في باحات المسجد الأقصى وتوزيع الكتب والنشرات وعقد المناقشات الفكرية.
بدوره، قال الشيخ محمد بريوش، إن الدكتور الشقاقي كان يجوب الضفة شمالاً وجنوباً لم يترك قرية أو مدينة إلا وعمل على أن يكون هناك غرس لتلك البذرة الطيبة التي نمت فيها هذه الشجرة الطيبة، فكان يغذي الفكرة بعرق جبينه وعمله الدؤوب المتواصل ليلاً ونهاراً، مؤكداً أنه سرعان ما انتقلت الفكرة إلى التطبيق على الأرض، من خلال التخطيط لأول عملية عام 1986م.
وأضاف القيادي بريوش، أن الدور الطليعي للشهيد الشقاقي وإخوانه هو مزج الإسلام بالوطن، وحتمية الانتصار من خلال سورة الإسراء، وتقديم الواجب على الإمكان، مشيراً إلى أن نقطة البداية من المسجد الأقصى لتحظى هذه الفكرة ببركة المقدسات، وتبقى مدينة القدس هي القبلة وكاشفة العورات، وأن من يفرط في القدس فإنه يتنازل عن أية من الكتاب.
وأردف بالقول: عمل الدكتور الشقاقي على ترسيخ مفاهيم الإسلام والجهاد وفلسطين، وتعزيز مفهوم الوحدة داخل الحركة الإسلامية والأمة، وأن وعد الله لن يتحقق في ظل الفرقة والتمزق، مشيراً إلى أنه كان يرى الصراع المذهبي هو ضجة مفتعلة، وأن ما يجمع الأمة أكثر مما يفرقها، وينظر إلى انتصار الثورة الإسلامية أنها انتصار للإسلام وفلسطين ولكل المستضعفين والمقهورين والمحرومين في الأرض.
اغتيال الجسد وصعود الفكرة:
أخيراً، كان ذلك المعلم الملهم على موعدٍ مع أجَله، الذي ظلّ "حارسه" لـ44 عاماً، هي سنيّ حياته القصيرة، والكبيرة بما أنجزه من مشروع إسلامي جهادي ممتد على أرض فلسطين، واستعد مقابل ذلك للاتهام والتضييق والملاحقة والاعتقال والإبعاد والنفي والتهديد بالقتل ثم أخيراً كان استشهاده وحيداً غريباً، "ومَن يستشهد إذا لم يستشهد فتحي الشقاقي؟".
وحول استشهاد الدكتور فتحي الشقاقي، قال القيادي خالد جرادات: تلقينا نبأ استشهاد الدكتور أثناء وجودنا في سجن مجدو وكنا نتوقع ذلك في ظل الفكر الذي واجه به أمريكا وإسرائيل، لقد تلقينا الخبر بحزن كبير وألم شديد ولكن عزاءنا أن القادة يتقدمون الصفوف ويستشهدون قبل الجنود، وكل من يحمل هذه الفكرة فهو يحمل كفنه، وكان الدكتور الشقاقي، يقول: لقد عشت أكثر مما أتوقع.
من جهته، استحضر القيادي محمد بريوش، لحظات إعلان نبأ اغتيال الدكتور بقوله: كنت في معتقل النقب حين عرفنا بالخبر، وكان بمثابة صاعقة على الرأس ووقعها أليم على النفس، وثقيلاً على القلب، مضيفاً، لقد بكينا أخاً وصديقاً وقائداً، حمل إرثاً عظيماً يمتد من عصر النبوة وصرخات عمار وبلال وسمية.
وختم القيادي بريوش بقوله: إن استشهاد الدكتور فتحي الشقاقي خلق فينا الاصرار والعزيمة على مواصلة الدرب والوفاء لهذه الفكرة، وأن نكون كلنا مشاريع شهادة، وجعلنا أكثر تماسكاً وزاد في عزيمتنا، وأن الشهداء اصطفاء وارتقاء وحياة أبدية.
لقد أراد المعلم الدكتور فتحي الشقاقي لجرحه أن يظلّ مفتوحاً: "يا أهلي هاتوا الملح... حتى يبقى حيّاً هذا الجرح". وأن يظل يردد: "لن أغفرها لك، تلعنني أمي إن كنتُ غفرت.. تلفظني القدس إن كنتُ نسيت". كما ظلّ يلوح بدمائه التي كانت دليل صدقه في وجه مَن خالفوه وحاربوه: "لن تصدّقوني... إلّا عندما تروا دمي على صدري".
تعليقات
إرسال تعليق